: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب وبديهي أن الأمانة هنا ليست حفظ المال فقط ، فذلك ما لا يفيده نص الآية الكريمة ، وإنما نستشعر أن المراد بالأمانة هنا شيء تأباه طبيعة العوالم كلها إلا الإنسان الذي أهّله الله لحمل هذه الأمانة والاتصاف بها والتي هي: التزام الواجبات وأداؤها خير أداء كما شرعها الله سبحانه وتعالى للناس .
والإنسان وحده من بين هذه العوالم كلها هو الذي يستطيع أن يتحكم في ميوله وغرائزه فيخضعها لمقاييس الحق ويكون بين الناس وفيّاً بما التزم نحوهم من عهود ، عاملا على بث الطمأنينة في أوساطهم ، فإن ترك بعد ذلك الواجب كان خائنا للأمانة عاملا على أذاهم ، ظالما لنفسه ولمجتمعه ، جاهلا بما تجره الخيانة عليه وعلى الناس من شر وفساد .
فالعقل لدى الإنسان أمانة إن عمل بمقتضاه ونظم بالعلم والمعرفة وعمل فيه بطاعة الله كان مؤديا للأمانة خير أداء .
والجسم أمانة لديك فإن أنت غذيته وصححته ورفقت به ولم ترهقه كنت محسنا محافظا على الأمانة .
وزوجك وولدك ووالداك وكل من تشترك معهم في أواصر القربى ويلزمك حفظهم والنصح لهم هم أمانة عندك ، فإن رعيت حقوقهم وأسديت لهم الخير وأبعدت عنهم الأذى كنت قائما بالأمانة أحسن قيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}(6) سورة التحريم .
وحق المجتمع عليك في نشر الخير فيه وإشاعة الطمأنينة أمانة تلزم بالوفاء بها ، فإن لم تفعل كنت مسيئا إلى الناس خائنا للأمانة .
الأمة في أيدي المسؤولين والحاكمين أمانة ، فإن قاموا بما يجب عليهم نحوها من نصح ورعاية وصيانة لكرامتها وحريتها أو أقاموها على شريعة الله : كانوا أمناء أوفياء ، ((الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته )) وإلا كانوا من أكثر الناس غشا وخيانة ((من مات غاشا لرعيته لم يجد رائحة الجنة)).
والدين أمانة في عنق علمائه ، إن بينوه للناس وصانوه من التحريف والتلاعب كانوا أوفياء وإن لم يفعلوا كانوا مرتكبين لأبشع صور الخيانة:{وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (187) سورة آل عمران .
والعلم أمانة في نفوس العلماء إن استعملوه في خير كانوا أمناء أوفياء ، وإن استعملوه فيما يشيع الذعر ويشقي الأمم ويشجع الطغاة على العدوان والإجرام ونشر الفاحشة بين الناس ، كانوا خونة أشبه بالمجرمين يلحق بهم العار وتحقق عليهم اللعنة:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} (13) سورة المائدة.
والمال في أيدي الناس أمانة، فإن أحسنوا التصرف به والقيام عليه وأداء الحقوق الاجتماعية فيه كانوا أمناء أو فياء، لهم الذكر الجميل في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، وإلا كانوا خونة ظالمين وسفهاء مبذرين:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (34) سورة التوبة .{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (27) سورة الإسراء . وهكذا.
إخواني في الله: نجد الأمانة تنظم شؤون الحياة كلها : من عقيدة وعبادة وأدب ومعاملة وتكافل اجتماعي وسياسة حكيمة رشيدة وخلق حسن كريم .
والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود ، سر سعادة الأمم ، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب والأمم في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس